البحار تحتضن في عمقها وأغفلتها قصصًا تذهل العقل وتقشعر الأبدان ويخفى علينا الكثير منها، وفي قوله سبحانه وتعالى: ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) سورة النور(40)، الأمواج أبرز إعجازات البحار ففي بحوث علماء البحار استطراد لهذه الآية ليكتشفوا أن هناك أمواج في جوف البحار تسمى بالداخلية أقوى بكثير من السطحية و طولها يتجاوز الكيلومترات تم اكتشافها في خمسينات القرن العشرين والتي ذكرت في القرآن الكريم الذي نزل قبل 1400 سنة، وهذا إعجاز واحد وقد ذكر فماذا عن الذي لم يذكر؟
في التراث العربي تلك البحار ليست مجرد مساحات مائية تمتد إلى ما وراء الأفق، بل هي عوالم نابضة بالحياة، مليئة بالأسرار والمخاطر، حيث يصبح على كل موجة قصة، وكل ريح أغنية تهمس بها الأسطورة، بوابة واسعة تُفتح على المجهول، حيث يقف الإنسان أمام رهبة الطبيعة، ويطلق خياله ليحكي قصصًا تمزج الحقيقة بالخيال، والجمال بالخوف.
ومن أجمل الأساطير السندباد، كانت بحار الخليج العربي حاضنة لحكايات مشابهة يرويها البحارة في جلساتهم بعد العودة من رحلات الغوص أو التجارة، كانت هذه الحكايات تنبع من تجاربهم اليومية، لكنها تنسج بأسلوب أسطوري يجعلها أكثر إثارة، يُجسد السندباد البحري صورة المغامر الذي يواجه المخاطر بشجاعة، مرتحلًا عبر البحار بحثًا عن الغنى والمعرفة، في كل رحلة، يواجه السندباد تحديات مذهلة، من جزر تبدو كأنها تنبض بالحياة وتتحول إلى مخلوقات، إلى لقاءات مع طيور الرخ العملاقة التي تملأ السماء بجناحيها، وأحد أشهر مغامراته كانت عندما وجد نفسه في جزيرة خضراء ظنها مكانًا للراحة، لكن تبين أنها ظهر حوت عملاق استيقظ فجأة وغاص به إلى أعماق البحر، مغامراته مليئة بالرموز التي تبحر بالعقل لإقصاءات بعيدة فالبحر يمثل الغموض، والكائنات الغريبة تجسد المخاوف الإنسانية من المجهول، فيما يظهر السندباد دائمًا بشخصية الباحث الذي ينهض مجددًا بعد كل محنة.
وعلى شواطئ الخليج، جلس البحارة بعد يوم طويل من الغوص في أعماق البحر أو الإبحار بحثًا عن اللؤلؤ والتجارة، هناك، وتحت ضوء النجوم المتلألئة، كانوا يحكون قصصًا غريبة ومفعمة بالخيال عن الأرواح والكائنات البحرية، ومن بين أشهر القصص، حكايات عن أم الدويس، وهي روح أنثوية أسطورية قيل إنها تظهر للبحارة عند انقطاع الأمل وتغريهم بجمالها قبل أن تجرهم إلى الأعماق، كما تحدث البحارة عن الغواص الشبح، الذي يُقال إنه يظهر في أماكن الغوص الغنية باللؤلؤ، ويُعتقد أنه حارس للأعماق يحمي ثروات البحر من الطامعين.
تشترك قصص السندباد وحكايات البحارة في الخليج العربي في إبراز علاقة الإنسان بالبحر كمساحة للتحدي والمغامرة، يعكس التراث العربي وقوته من خلال هذه القصص فهمًا عميقًا لطبيعة البحر الذي يكون مصدر رزق ووسيلة للعيش من خلال خيراته، لكنه أيضًا يحمل أسرارًا ومخاطر تتطلب شجاعة وخبرة، وكان الإنسان العربي يرى في كل دوامة لغزًا يجب حله.
إن حكايات السندباد والأساطير الخليجية لا تزال تلهم الأدباء والفنانين حتى يومنا هذا، فهي ليست مجرد ماضٍ يُروى، بل هي مرآة تعكس قدرة الإنسان على الحلم والاستمرار، تبقى البحار في التراث العربي رمزًا للفضول الذي لا ينتهي، والتحدي الذي لا يهدأ، والقصص التي لا تموت، لتذكرنا دائمًا بأن المجهول ليس نهاية الطريق، بل بدايته.